يشهد الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة تحولات جذرية في بنيته الجيوسياسية، وذلك نتيجة لتقاطع عوامل داخلية وخارجية إقليمية محلية ودولية، منها: تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، ومحورة المحاور وسكون الحلفاء، إضافة إلى الأحداث الأمنية الأخيرة في الشرق الأوسط.
بدأ هذا التحول في سنة 2020 بشكل علني، حيث كان التطبيع خلف الجدران يرتسم خفيا، وأولها الإمارات، البحرين، والمغرب حيث عرفت هذه الاتفاقيات ب “اتفاقيات أبراهام”، ولاذت هذه الدول العربية للتطبيع بذريعة لحفظ الأمن وعدم تصادم مصالحها، وعنونت هذا العمل “وسيلة لتهديدات إيران الإقليمية “، فقد كثر الجدل بالتوسيع الإيراني أكثر من تناول القضية الفلسطينية على منبر جاد، حيث نكست دول عربية أخرى أعلامها بشكل تلاعبي سابقا عبر اتفاقيات جردتها من هويتها العربية بنظر اليساريين المناضلين وأبرزها كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة والتي افتتحت بها مصر والأردن ومنظمة التحرير أولى مراسم إخماد النضال الشعبي للقضية الفلسطينية.
فقد غلب على الدول العربية ذات نوايا السلام المنطق النيو ليبرالي والذي تبنّته الأنظمة العربية، ويقوم على خصخصة القرار السياسي لصالح رأس المال العالمي، وتذويب القضايا القومية في خطاب السوق المفتوحة، من هذا المنطلق، فإن الدول العربية المُطبّعة لا ترى في إسرائيل عدوًا احتلاليًا، بل شريكًا اقتصاديًا وتقنيًا في سوق مفتوح بلا ذاكرة تاريخية أو وعي تحرري، وتُصوّر القضية الفلسطينية كـ”عبء سياسي” يعطّل فرص التقدم، بدلاً من كونها قضية تحرر وكرامة جماعية. ويقدم التطبيع كرسالة ولاء للمركز الإمبريالي الأمريكي، الذي بدوره يفتح أبواب “الاستثمارات” والدعم.
ففي ظل قمع أي مقاومة أو صوت معارض تحت ذريعة التنمية والانفتاح، تبلورت استراتيجية سلطوية جديدة تعتمد على إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع. فبدلًا من أن تكون الدولة راعية للحق العام والتاريخ النضالي لشعوبها، أصبحت تُقدّم نفسها كفاعل اقتصادي يسعى لجذب الاستثمارات، وتحقيق معدلات نمو، وإدماج البلاد في الاقتصاد العالمي دون الالتفات إلى العدالة الاجتماعية أو التحرر الوطني. في هذا السياق، يُعاد تعريف مفاهيم مثل “السلام”، “الانفتاح”، و”التنمية” ليس كمفاهيم إنسانية تُحقق مصالح المجتمع، بل كغطاء أيديولوجي لإعادة إنتاج السلطة وقمع المعارضين لها.
فأي صوت معارض لهذه الإيديولوجية بات يعتبر “إرهابا” وميليشيا، وفي منحى آخر غاشية أبصارهم عن الإبادة والاعتداءات التي تمارس على شعوب خرجت لتحرير نفسها وأرضها من احتلال بات يمتد جغرافيا عن خلفية عقائدية بأن أرضا له في الشام بالتوريث في دينه، والذي ظهر بهيئة كيان إجرامي في حق أصحاب الأرض واليساريين، وملاك اقتصادي بنظر الدول العربية النيو ليبرالية المجردة من الحس العروبي الإنساني.
هكذا تتحوّل فلسطين من قضية مركزية إلى موضوع تفاوضي تقني، وتتحوّل إسرائيل من كيان استعماري إلى “شريك استراتيجي”، وهذا ما نادى به اليسار المقاوم لمنعه من طمس هوية عربية وعدم جر القرار السيادي في المنطقة محكوما برضا أمريكا.